حدثنا علي ، حدثنا سفيان ، قال : قال لي ابن شبرمة : نظرت كم يكفي الرجل من القرآن فلم أجد سورة أقل من ثلاث آيات . فقلت : لا ينبغي لأحد أن يقرأ أقل من ثلاث آيات . قال سفيان : أخبرنا منصور ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، أخبره علقمة عن أبي مسعود ، فلقيته وهو يطوف بالبيت ، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه .
وقد تقدم أن هذا الحديث متفق عليه ، وقد جمع البخاري فيما بين عبد الرحمن بن يزيد وعلقمة عن أبي مسعود وهو صحيح ؛ لأن عبد الرحمن سمعه أولا من علقمة ، ثم لقي أبا مسعود وهو يطوف فسمعه منه ، وعلي هذا هو ابن المديني وشيخه هو سفيان بن عيينة ، وما قاله عبد الله بن شبرمة - فقيه الكوفة في زمانه - استنباط حسن ، وقد جاء في حديث في السنن : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وثلاث آيات ولكن هذا الحديث - أعني حديث أبي مسعود - أصح وأشهر وأخص ، ولكن وجه مناسبته [ ص: 81 ] للترجمة التي ذكرها البخاري فيه نظر ، والله أعلم .
والحديث الثاني أظهر في المناسبة وهو قوله : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو قال : أنكحني أبي امرأة ذات حسب ، فكان يتعاهد كنته فيسألها عن بعلها فتقول : نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشا ، ولم يفتش لنا كنفا منذ أتيناه ، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : القني به ، فلقيته بعد ، فقال : كيف تصوم ؟ . قلت : كل يوم . قال : وكيف تختم ؟ . قلت : كل ليلة . قال : صم كل شهر ثلاثة ، واقرأ القرآن في كل شهر : قال : قلت : إني أطيق أكثر من ذلك . قال : صم ثلاثة أيام في الجمعة . قلت : أطيق أكثر من ذلك . قال : أفطر يومين وصم يوما . قلت : أطيق أكثر من ذلك . قال : صم أفضل الصوم ، صوم داود ؛ صيام يوم وإفطار يوم ، واقرأ في كل سبع ليال مرة ، فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! وذلك أني كبرت وضعفت ، فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار والذي يقرأ يعرضه بالنهار ليكون أخف عليه بالليل ، وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياما وأحصى وصام مثلهن ، كراهية أن يترك شيئا فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : في ثلاث وفي خمس وأكثرهم على سبع .
وقد رواه في الصوم ، والنسائي - أيضا - عن بندار عن غندر ، عن شعبة ، عن مغيرة ، والنسائي من حديث حصين ، كلاهما عن مجاهد به .
ثم روى البخاري ومسلم وأبو داود من حديث يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن - مولى بني زهرة - عن أبي سلمة : قال : وأحسبني قال : سمعت أنا من أبي سلمة ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : اقرأ القرآن في شهر . قلت : إني أجد قوة . قال : فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك . فهذا السياق ظاهره يقتضي المنع من قراءة القرآن في أقل من سبع ، وهكذا الحديث الذي رواه أبو عبيد :
حدثنا حجاج وعمر بن طارق ويحيى بن بكير ، كلهم عن ابن لهيعة ، عن حبان بن واسع ، عن أبيه ، عن قيس بن أبي صعصعة ؛ أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، في كم أقرأ القرآن ؟ فقال : في كل خمس عشرة . قال : إني أجد في أقوى من ذلك ، قال : ففي كل جمعة .
وحدثنا حجاج عن شعبة ، عن محمد بن ذكوان - رجل من أهل الكوفة - قال : سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود يقول : كان عبد الله بن مسعود يقرأ القرآن في غير رمضان من [ ص: 82 ] الجمعة إلى الجمعة .
وعن حجاج ، عن شعبة ، عن أيوب : سمعت أبا قلابة ، عن أبي المهلب قال : كان أبي بن كعب يختم القرآن في كل ثمان .
وحدثنا علي بن عاصم ، عن خالد ، عن أبي قلابة قال : كان أبي بن كعب يختم القرآن في كل ثمان .
وكان تميم الداري يختمه في كل سبع ، وحدثنا هشيم ، عن الأعمش ، عن إبراهيم : أنه كان يختم القرآن في كل سبع .
وحدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : كان الأسود يختم القرآن في كل ست ، وكان علقمة يختمه في كل خمس .
فلو تركنا ومجرد هذا لكان الأمر في ذلك جليا ، ولكن دلت أحاديث أخرجوها على جواز قراءته فيما دون ذلك ، كما رواه الإمام أحمد في مسنده : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا حبان بن واسع ، عن أبيه ، عن سعد بن المنذر الأنصاري ؛ أنه قال : يا رسول الله ، أقرأ القرآن في ثلاث ؟ قال : نعم . قال : فكان يقرؤه حتى توفي .
وهذا إسناد جيد قوي حسن ، فإن حسن بن موسى الأشيب ثقة متفق على جلالته ، روى له الجماعة ، وابن لهيعة ، إنما يخشى من تدليسه وسوء حفظه ، وقد صرح هاهنا بالسماع ، وهو من الأئمة العلماء بالديار المصرية في زمانه ، وشيخه حبان بن واسع بن حبان وأبوه ، كلاهما من رجال مسلم ، والصحابي لم يخرج له أحد من أهل الكتب الستة ، وهذا على شرط كثير منهم ، والله أعلم .
وقد رواه أبو عبيد ، رحمه الله ، عن ابن كثير عن ابن لهيعة ، عن حبان بن واسع ، عن أبيه ، عن سعد بن المنذر الأنصاري أنه قال : يا رسول الله ، أقرأ القرآن في ثلاث ؟ قال : نعم ، إن استطعت . قال : فكان يقرؤه كذلك حتى توفي .
حديث آخر : قال أبو عبيد : حدثنا يزيد ، عن همام ، عن قتادة ، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث .
وهكذا أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة من حديث قتادة به . وقال الترمذي : حسن صحيح .
حديث آخر : قال أبو عبيد : حدثنا يوسف بن الغرق ، عن الطيب بن سليمان ، حدثتنا عمرة بنت [ ص: 83 ] عبد الرحمن : أنها سمعت عائشة تقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختم القرآن في أقل من ثلاث .
هذا حديث غريب وفيه ضعف ، فإن الطيب بن سليمان هذا بصري ، ضعفه الدارقطني ، وليس هو بذاك المشهور ، والله أعلم .
وقد كره غير واحد من السلف قراءة القرآن في أقل من ثلاث ، كما هو مذهب أبي عبيد وإسحاق وابن راهويه وغيرهما من الخلف - أيضا - قال أبو عبيد : حدثنا يزيد ، عن هشام بن حسان ، عن حفصة ، عن أبي العالية ، عن معاذ بن جبل أنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث . صحيح .
وحدثنا يزيد ، عن سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة قال : [ قال ] عبد الله : من قرأ القرآن في أقل من ثلاث فهو راجز . وحدثنا حجاج ، عن شعبة ، عن علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله مثله سواء .
وحدثنا حجاج ، عن شعبة ، عن محمد بن ذكوان ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه ؛ أنه كان يقرأ القرآن في رمضان في ثلاث . إسناده صحيح .
وفي المسند عن عبد الرحمن بن شبل مرفوعا : اقرءوا القرآن ، ولا تغلوا فيه ، ولا تجفوا عنه ، ولا تأكلوا به ، ولا تستكثروا به .
فقوله : لا تغلوا فيه أي : لا تبالغوا في تلاوته بسرعة في أقصر مدة ، فإن ذلك ينافي التدبر غالبا ؛ ولهذا قابله بقوله : ولا تجفوا عنه أي : لا تتركوا تلاوته .