وافق العرب على الانتقال للمفاوضات المباشرة تجاوباً مع طلب الإدارة الأميركية المتوافق مع رغبة "إسرائيل" في ذلك. ويبدو أن عملية السلام في الشرق الأوسط تسير على هذا المنوال، ومع أن العرب مدركون في قرارة أنفسهم أن الطرف الإسرائيلي ليس شريكاً حقيقياً في السلام، نظراً لممارساته المتغطرسة على الأرض، ولكنهم مع ذلك يحاولون الإمساك بقشة إنقاذ يعلمون أنها لن تزيدهم إلا غرقاً، بعدما بلغ بنا الحال ما هو عليه اليوم من الوهن.
ومع أن الانتقال إلى المفاوضات المباشرة لم يحظَ بإجماع فلسطيني ولا حتى إجماع عربي، لكنه سار كما هو مخطط له وذلك لتمرير أجندة "إسرائيل" في القضية والوصول بالمفاوضات إلى النقطة الحرجة التي تمكنها من جني مكتسبات جديدة، واغتصاب باقي الحقوق الفلسطينية مع عدم وجود مرجعية لهذه المفاوضات، وعدم وجود سقف زمني لها، ناهيك عن مسألة تجميد الاستيطان التي تعتمد كورقة ضغط خارجية بدلاً من كونها ورقة ممانعة فلسطينية. كل ذلك يأتي في الوقت الذي تقوم فيه "إسرائيل" بممارسات خطيرة على الأرض كتهويد لمدينة القدس المحتلة واحتلال أجزاء أخرى من القدس الشرقية، واعتبار القدس الموحدة العاصمة الأبدية ل"إسرائيل"، كذلك الانتهاكات المستمرة في محيط الحرم القدسي وباحات المسجد الأقصى والحفريات التي باتت تهدد أسوار المسجد، وتسارع وتيرة الاستيطان بشكل يجعل مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية أمراً غير واضح المعالم، بالإضافة إلى توسيع دائرة الاحتلال ليشمل أراضي جديدة في الضفة الغربية، وما يفرضه جدار الفصل العنصري من واقع ملموس على الأرض، إضافة إلى ما تم إقراره مؤخراً من قانون جائر لإبعاد المواطنين الفلسطينيين من الضفة الغربية بحجة انتهاء إقامات دخولهم.
كل تلك القضايا تترافق مع الالتزام العربي بمسار السلام كخيار استراتيجي وانخراطهم المستمر في المفاوضات التي أثبتت تجارب سبعة عشر عاماً عدم جدواها، كونها لا تزيد القضية إلا فشلاً متراكماً، كما تأمل "إسرائيل" من خلال المفاوضات إعادة اللحمة من جديد لائتلافها الحكومي المتشظي في الحكومة الحالية، وهنا يتبادر سؤال مهم: ماذا لو رفض العرب توفير الغطاء المطلوب للسلطة الفلسطينية واعتماد موقف رافض للمفاوضات؟! ماذا لو أصر العرب على التزام مواقف قوية ضد الاستيطان وركزوا جهودهم الدولية في هذا الإطار ورفع قضية الاختراقات الإسرائيلية في القدس لمخاطبة الرأي العام والمجتمع الدولي؟!
كل تلك المسائل كانت تتطلب من العرب الوقوف بقوة تجاهها واعتماد إجراءات منهجية مدروسة لتضييق الخناق على "إسرائيل" على غرار ما حدث لقافلة الحرية على سبيل المثال، بالإضافة إلى استخدام كل الأوراق المتاحة للضغط على "إسرائيل" وحلفائها، وقتها ندرك أن المواقف العربية صامدة قوية مستقلة. ولكن ما يحدث على الساحة للأسف الشديد غياب عربي تام عن الفعل المؤثر، وانصياع للإملاءات الخارجية دونما مشروع واضح في إدارة الصراع، لذلك فالأوضاع على الساحة العربية لا تبشر بالخير وتسير بانحدار مستمر.
إن غياب العناصر الأساسية المطلوبة لمشروع نهضة عربية لا يعني بالضرورة الانهزام والاستسلام، بل يتطلب شيئاً من المجابهة والصمود في وجه التحديات، ثم إلى متى سنبقى ننعت أنفسنا بهذه الأوصاف وجلد الذات دون استراتيجية واضحة؟ أليس حرياً بهذه الأمة أن تقف وقفة مشرفة تنفض عن نفسها غبار اليأس والخنوع؟ لماذا لا تضطلع الدول المحورية بدورها وواجبها القومي المعروف؟ أين اختفت دول الممانعة العربية التي تمثل الرأي الآخر في المنظومة العربية؟ هل يعقل ما يحدث على الأرض العربية من أزمات خانقة شاهدة على غياب الإرادة العربية؟!
إن الأمة العربية اليوم بحاجة ماسة إلى مشروع نهضوي جديد ينقلنا من مرحلة فقدان الوعي والإرادة إلى آفاق أرحب من العمل الجاد والتنمية، واستقلال القرار السياسي ووحدة الصف، والكلمة مقابل التيارات العنيفة الموجهة ضد الشعوب والأوطان، إلا أن هذه الحقائق ستظل في دائرة النظريات طالما لم تتولد الرغبة الجادة والإرادة الصادقة القوية لدى صناع القرار في المنطقة لتغيير هذا الواقع والدفع باتجاه مشاريع تحقق بعض الطموحات وتوقف مسلسل التنازلات التي أصبحت واقعنا المحبط.
إن مشاريع النهضة العربية باتت اليوم أمراً حتمياً على أبناء الأمة العربية بشقيها الشعبي والرسمي من أجل صياغة واقع جديد يرقى بالأمة، ويعيد رسم استراتيجية شاملة لمواجهة التداعيات للخروج من واقع الضعف والجمود، وتوسيع دائرة التعاون مع الجوار الإسلامي، وبناء تكتلات قوية في وقت يتجه فيه النظام العالمي نحو عالم متعدد الأقطاب يحدونا فيه الأمل لإيجاد مظلة واقية على هذا الكوكب بما تعنيه من شمول لمختلف جوانب الإصلاح الداخلي وتوحيد الصف ودعم مواقف الحق والعدالة لإعادة بناء جوهر الإسلام الحقيقي في زمن فقدت فيه كل الأنظمة العالمية مصداقيتها.
ـــــــــــــــــــــ