فلسطين في اليونسكو... مزيد من العزلة الأميركية

رغم الحملة الدبلوماسية الشرسة التي شنتها الولايات المتحدة و"إسرائيل" لإقناع اليونسكو بعدم قبول عضوية الدولة الفلسطينية، وافقت المنظمة التابعة للأمم المتحدة على طلب السلطة الفلسطينية ومنحت العضوية الكاملة للدولة الفلسطينية بأغلبية 107 أصوات وامتناع 52 دولة بينما رفضت الطلب 14 دولة، ليمثل هذا التصويت خسارة حقيقية للجهود الأميركية وهزيمة نكراء للحملة الإسرائيلية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا انخرطت الدولتان في معركة خاسرة منذ البداية؟ ولماذا هذا الإصرار على رفض الطلب الفلسطيني؟ الجواب كما جاء على لسان المسؤولين الأميركيين أن الخطوة الفلسطينية تهدد عملية السلام، وأنه من الأفضل الجلوس إلى طاولة المفاوضات الثنائية لحل المشكلات العالقة بين الطرفين بدل سلوك الطريق الأحادي الذي اختاره الفلسطينيون.

والحقيقة أن هذه المقولة لا تصمد أمام الفحص المتأني، وسرعان ما تتهاوى أمام التحليل المنطقي، فمعروف أن المفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل لم تثمر أي نتيجة منذ انطلاقها قبل سنوات، وهي لن تثمر اليوم أي شيء في ظل الحكومة الحالية التي تعتبر الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل.
كل ما هنالك أن المفاوضات تعطي المزيد من الوقت ل"إسرائيل" للاستمرار في سياستها التوسعية على الأرض وتغيير الحقائق بضم الأراضي وبناء المستوطنات، تلك المستوطنات التي سبق لوزير إسرائيلي أن قال بشأنها إنها قد تدوم لمئة سنة قادمة، ولا يمكن للمرء أن يفهم كيف لانضمام فلسطين لمنظمة أممية ترعى التعليم والثقافة والعلوم أن تقوض السلام كما تدعي ذلك "إسرائيل" وأميركا.
وكيف ل"إسرائيل" التي تشتكي كثيراً من مقاطعة بعض الجامعات والمؤسسات البحثية لها أن ترفض انضمام الفلسطينيين إلى اليونسكو التي تدعم التعليم والعلوم؟
وكيف يمكن اعتبار لجوء الفلسطينيين إلى الأمم المتحدة ثم إلى اليونسكو ضرباً من التوجه الأحادي والخطوات المنفردة فيما تجسد تلك المنظمات جوهر العمل الجماعي في العالم؟ فالأحادية الحقيقية التي تشتكي منها إسرائيل هي تجاوز المنظمات الدولية والقفز على قراراتها المتعددة، كما تفعل "إسرائيل" دائماً، وكما فعلت الولايات المتحدة عام 2003 عندما غزت العراق دون الحصول على ترخيص من مجلس الأمن الدولي، بالإضافة إلى ذلك، ماذا نسمي الخطوات التي تقوم بها "إسرائيل" يومياً في القدس الشرقية والضفة الغربية والمتمثلة في مصادرة الأراضي وطرد الفلسطينيين من منازلهم وهدمها ومواصلة الاستيطان التي تهدد فعلًا السلام في المنطقة، وتديم التوتر مع جيرانها العرب؟
هذا ناهيك عن الإهانات اليومية التي يتجرعها الفلسطينيون بسبب الاحتلال؟ أليس الضرر الناتج عن تلك الممارسات أكبر من سعي السلطة الفلسطينية إلى الانضمام إلى الأمم المتحدة، أو اليونسكو؛ والحقيقة أن الولايات المتحدة من خلال دعمها للموقف الإسرائيلي، بل والدفاع عنه وكأنه موقفها هي، فقط تكشف مرة أخرى ضعفها أمام الدولة التي يفترض بها رعايتها، وإلا كيف نفسر هذا الانحياز السافر إلى الدولة العبرية؟ أليس من المفارقة أن الولايات المتحدة التي تقدم دعماً اقتصادياً ومالياً ل"إسرائيل"، تجد نفسها خاضعة لنفوذ هذه الحكومة ومذعنة لتأثيرها؟
فلم يُسجل أبداً خلال الحرب الباردة أن أملت ألمانيا مثلاً التي كانت تحميها الولايات المتحدة شروطها، أو خياراتها الاستراتيجية على واشنطن، لكن فيما يتعلق ب"إسرائيل" يوجد دائماً استثناء.

ولنا أيضاً أن نسائل القرار الأميركي بوقف المساهمات المالية لليونسكو رداً على انضمام الفلسطينيين إليها، إذ كيف تتهم واشنطن الفلسطينيين باتخاذ خطوات أحادية فيما هي توقف إسهاماتها التي تمثل 22 في المئة موازنة اليونسكو إلى المنظمة التي ترعى التعاون الدولي في مجالات التربية والعلوم والثقافة؟
وكيف لها أيضاً أن تعاقب أغلبية الدول التي صوتت لصالح الفلسطينيين من خلال تعطيل برامج مهمة تستفيد منها مثل نظام الإنذار المبكر الذي وضعته اليونسكو في هايتي بعد كارثة تسونامي، ووقف المدارس والمعاهد المهنية التي تشرف عليها المنظمة في أفغانستان، أو البرنامج العالمي لمحو الأمية؟ وماذا يفيد تجميد هذه البرامج، التي تستفيد منها دول هي في أمس الحاجة إليها، في دعم عملية السلام في الشرق الأوسط؟
أليس من الأفيد الاعتراف مباشرة بأنه بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية أصبحت ل"إسرائيل" الأولية الأولى بينما الباقي لا يعدو أموراً ثانوية؟ لكن ألم تفكر أميركا في الكلفة الدبلوماسية التي ستدفعها جراء انسحابها من اليونسكو ومخالفتها للإجماع الدولي؟ والتأثير السلبي لذلك على صورتها التي تسعى جاهدة إلى ترميمها؟ ألا يمكن اعتبار ذلك ضعفاً أميركياً في عدم قدرتها على إسماع وجهة نظرها في تل أبيب؟
أليس أيضاً من المفارقة أن تكون إدارة أوباما التي استبشر العالم بمجيئها وتغنت طويلًا بالتعاون مع العالم، وتبني سياسة التشاور مع القوى الدولية هي من قررت الانسحاب من اليونسكو وحجب إسهاماتها المالية، فيما إدارة جورج بوش الابن المشهور بسياسته الأحادية واحتقاره للمنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة هي من أعادت انضمام الولايات المتحدة إلى اليونسكو بعد سنوات من الانسحاب تعود إلى عام 1984 تحت إدارة ريجان؟

مهما كان الحال يبقى أن الإدارة الأميركية الحالية، بخروجها من اليونسكو والتذرع بأن قبول عضوية فلسطين يقوض عملية السلام، تفضح نفسها أمام العالم وتكشف مدى تهافت الخطاب الأميركي القائم على حل الدولتين وتسوية الصراع في الشرق الأوسط، بل تشكك في مجمل دورها كوسيط تخلى عن الحياد وصار طرفاً أساسياً في الصراع، ولئن كان ميزان القوى اليوم يميل لصالح "إسرائيل" وداعميها ما يشجعها على السير في طريق الاحتلال والاستيطان وفرض إملاءاتها، فإن عليها التفكير ملياً قبل تغير الواقع الدولي وصعود قوى جديدة تنافس أميركا، حينها لن تجد من يناصرها، ولربما تحسرت على رفضها الانصياع للقرارات الدولي