لم يكن متوقعاً أن يتوصل الفلسطينيون في سعيهم إلى المصالحة الوطنية، إلى تفاهم سياسي كامل قبل الشروع في حل ملفات الخلاف، لذلك بقي التناقض بين مساري المصالحة والمفاوضات مع "إسرائيل" ليس في إمكان السلطة الفلسطينية، وبالتالي حركة "فتح" اعتبار خيار التفاوض منتهياً، حتى لو كان مجمداً، وليس في إمكان حركة "حماس" اعتبار نفسها معنية بالتفاوض، حتى لو كانت أعلنت موافقتها على مبدأ "المقاومة الشعبية" من دون أن تتخلى عن خيار المقاومة بمختلف الأساليب، أي بما فيها المسلحة.
عندما بدأت الاتصالات لعقد المصالحة، وبعد اتفاق مايو 2011م، في القاهرة ومع تقدم اللجان المختصة في التحضير لهذه المصالحة، كان الجميع يعرفون ولا يزالون أن البحث عن سبل لإحياء المفاوضات سيتواصل ومع ذلك يشتعل السجال بين الطرفين من وقت إلى آخر ضد التفاوض أو معه، ويمكن القول إن هذا الخلاف غير قابل للحل حتى لو شرع الطرفان في تطبيق إجراءات المصالحة.
أن تتمسك كل من "فتح" و"حماس"، بموقفيهما هذا مفهوم، وأن يكون هناك "توزيع أدوار" بينهما فهذا أفضل لكنه ليس كذلك، أما أن يكون هناك خداع للشعب الفلسطيني فهذا لم يعد جائزاً ولا مقبولاً، والشعب يرى أن لديه مصلحة في كلا الخيارين حتى لو أصبح الجمع بينهما صعباً، تحديداً بعد الانقسام الحاصل، وبالأخص بعدما أصبح هذا الانقسام صراعاً على السلطة، ولو كان لهذا الصراع أن يخدم القضية فلا بأس، إلا أنه أمعن في الإساءة إليها، فهو أضعف الفلسطينيين من دون أن يضيف إلى نضالهم ضد الاحتلال، لكنه منح الاحتلال أوراقاً وإمكانات لمزيد من العبث وإثارة الفرقة بين أبناء الشعب الفلسطيني.
على طريق المصالحة ينبغي أن يطرح الفلسطينيون الأسئلة الحقيقية والصعبة أكثر مما ينبغي الخوض في تفاوض كما لو أن الأمر يتعلق بخصمين يريد كل منهما تحقيق مصلحته الخاصة على حساب الآخر، مع أن المعادلة بالغة الوضوح معاً يمكن أن يحققا المصلحة الوطنية أو أن يحمياها في أسوأ الأحوال، أما إذا تحرك كل على حدة فهذه وصفة لخسارة وطنية مؤكدة، وحتى مع وجود إرادة حقيقية لدى العدو لإقامة سلام سيكون الانقسام معوقاً للحصول على تسوية جيدة ومنصفة، والعكس صحيح أي أن المواجهة مع العدو في ظل الانقسام ستكون مجحفة وغير متكافئة، وهذا ما برهنته وقائع الأعوام الستة الماضية.
لعل أول شروط المصالحة وأصعبها أن "فتح" و"حماس"، محكومتان بالتكامل، وباعتراف كل منهما بما أنجزته الأخرى، أو ما يمكن أن تنجزه في إطار المصلحة الوطنية، فخلال العشرين عاماً المنصرمة شهدت القضية الفلسطينية تحولين مهمين: أولهما جنوح العرب إلى خيار السلام وانتفاء استعدادهم للعودة إلى خيار الحرب حتى بعدما تبين الخداع الإسرائيلي - الأمريكي، والثاني هو الانتفاضات والثورات التي أطاحت وتطيح بأنظمة الاستبداد، مع ما خلفته من أوضاع اقتصادية صعبة ومراحل انتقالية صعبة وتبدل عميق في الخريطة السياسية دفع بالإسلاميين إلى السلطة، ورغم أن التحولات الأخيرة تفترض منطقيا أن يكون التغيير في مصلحة القضية الفلسطينية، فإن هذه النتيجة تبقى مجرد احتمال لن يعيد العرب بالضرورة إلى خيار الحرب.
لذلك فمن شأن الفلسطينيين الذين أدركوا بعد التحول الأول أنهم مدعوون للاعتماد بنسبة كبيرة على أنفسهم، أن يحسنوا تحليل نتائج التحول الثاني فلا تندفع "حماس"، إلى اعتبار أن الموجة الإسلامية ترجح حظوظها لتسلم السلطة، ولا تبقى "فتح" معتمدة على العناصر التقليدية لقوتها رغم علمها أنها تراجعت وتآكلت، فمثل هذه الذهنية ربما تصلح في دول موجودة وغير واقعة تحت الاحتلال، أما في حال الفلسطينيين فليس المطلوب مزيداً من التسييس أو مزيداً من الأسلمة بل وضع كل طاقات الشعب في خدمة مهمة واحدة: التحرر من الاحتلال.
خلال الأسابيع الماضية، وبالتزامن مع ما سمي "لقاءات استكشافية" عقدت في عمان بين الفلسطينيين والإسرائيليين، برعاية أردنية وفي حضور ممثلين لـ"الرباعية" الدولية، نشب جدل بين رام الله وغزة وبين السلطة وفصائل المعارضة حول جدوى التفاوض من جهة، ومدى تأثيره السلبي على المصالحة من جهة أخرى، طبعاً هناك توجس وخشية دائمان من أن تخضع السلطة لضغوط، ومن أن تنشأ قناة تفاوض سرية، لا شك أن بعض السوابق يبرر ذلك، إلا أن الشروط التي وضعتها السلطة للتفاوض، وعرضتها لعلاقة متوترة مع الولايات المتحدة، باتت واضحة وغير قابلة للمساومة، بل إن السلطة بَنَتْ عليها تحركها نحو مجلس الأمن لنيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية وعضويتها في الأمم المتحدة، وهو ما أثار غضباً أمريكياً وإسرائيلياً لاعتزام الفلسطينيين الخروج من أسر الشروط المفروضة عليهم في لعبة التفاوض، وهنا يطرح السؤال: هل لدى "حماس" وسائر الفصائل المعارضة بديل جاهز للمفاوضات أفضل من التحرك الدبلوماسي الذي اتبعته السلطة؟ إذا كان الجواب: نعم، البديل هو العودة إلى المقاومة، أي استخدام السلاح، فهذا يفترض مشاركة الجميع بلا استثناء وعلى أساس ألا يكون الأمر مجرد جولة دموية أخرى يبرهن فيها الإسرائيلي مرة أخرى تفوقه الناري، والإجرامي وهو ما أصبح معروفاً، بل أنه يحقق للإسرائيليين ما يرغبون فيه.
عدا ذلك، كان هناك اقتراح بالفصل بين مساري المصالحة والتفاوض، أي أن المضي إلى المصالحة يجب ألا يعرقل باحتمالات العودة إلى طاولة المفاوضات، إلا إذا كانت هناك إرادة للربط بينهما، لا شك أن الموقع التفاوضي للسلطة يمكن أن يقوى بالدفع المعنوي للمصالحة، كما أن العودة إلى التفاوض على الأسس التي تشترطها يقوي وضعها في صياغة المصالحة، لكن هذه المعادلة لا قيمة لها إذا لم تترجم في نهاية المطاف، بإجماع فلسطيني على أن ما يجري هو في إطار المصلحة الوطنية.
لذلك يفترض ألا تكون المصالحة من أدوات "التكتيك" والمناورة، بل يجب التسريع فيها بمعزل عما يحصل بالنسبة إلى المفاوضات.
بعيداً عن الأوهام، لابد من الاعتراف بأن عناصر خارجية كثيرة باتت متداخلة في مسار المصالحة، فالأمريكيون والإسرائيليون وبعض العرب يعملون على إبطاء المصالحة لئلا تجذب السلطة إلى خيار يحبط كل الجهود لإحياء المفاوضات، كما أن الصراع الدولي-الإيراني يلعب دورا ينعكس بشكل غير مباشر على شروط "حماس"، و"الجهاد"، للمصالحة لئلا تجذبهما مع الفصائل المتحالفة معهما إلى موقع القبول بالمفاوضات ونتائجها.
وبديهي أن هذا التداخل يحول دون الفصل بين المسارين، لكنه يعني أولاً وأخيراً أن الحوار الداخلي الفلسطيني لم يحسم الموقف من المفاوضات، وأن الانقسام لا يزال في مربعه الأول، في المقابل، ينفرد الجانب الإسرائيلي بموقف بالغ الوضوح والوقاحة، فهو لا يريد المفاوضات ولا المصالحة، ويعمل على عرقلتهما، إذ أن واقع الانقسام الفلسطيني يناسب جداً حكومة مجرمي الحرب ولا ترغب في تغييره.